top of page
childofhandala

" أكون أو لا أكون؟ "



ماذا لو شاءَت الأقدار أنّي لم أُولَد؟ ما كنتُ لِأعتَرض، والأقدارُ لها أيضاً أن تشاءَ بأن أُبعَثَ لأبَوَينِ من ألمانيا أو الصين أو المغرب، وما شاءَت الأَقدارُ يَكون، ولكنَّ قَدَري سَطَّرَ شِهادَةَ ميلادي لأبَوَينِ مُهَجَّرينِ مِن فلسطين، مِن أصلِ ثماني ملياراتٍ ونصفَ المليار يمشونَ على الأرض اليوم، قدِّرَ لِي أن أَكونَ ابنَ القَضيَّة في مَنفى وَليسَ أياً مِمَّن يَنعَمونَ بِقضاياً أخفُّ وَزناً، إحصائِيّاً ذاكَ احتماليةٌ قليلةٌ جداً لا تتعدى %0.002 (واحد لخمسين ألفاً تقريباً)، أي أنَّ حظّي أن أكون قد وُلِدتُ مِن عِرقٍ آخر هو 99.998%، ولكن لم يكُن، إنّ هذه الاحتمالية ضئيلة جداً إذا عَلِمتَ أنّ احتمالية أن تُدهَسَ بسيّارة هيَ عَشرَةُ أضعافِ ذلك، ولِأزِيدَكَ مِن حِيرَتي، فَوجودي ما شِيءَ به في زمانِ الرَّفاهِيّة أو صلاح الّدين، بل لِأشهَدَ زَمَنَ التَّشريدِ والصَّهيونية، فيا لحَظِّي وأشقّائي لتَناهِي الصُّدفة، فهذا زَمَاني وَهذا حالي وما كُنتُ أنا مَن اختارَ أن يَكون، فهل "أكون أو لا أكون؟".


وإن أكُن فَأُريدُ لِكَينونَتي اكتمِالَها رَغماً عَن مَنبَعي، فإنَّ جِدَّ جَدّي ليُخرِجَنا مِن خَيمَةِ اللّجُوء وعَرَقُ والِدي لِيُوصِلَنا إلى الجّامِعات يوجِبُ عليَّ أن أبني مُستَقبلاً لأبنائِنا تَستَوي فِيهِ فُرصَتُهم للحياة والنّجاح مَعَ سائِر الجِنسيّاتِ والأعراق التي لم تَعرِف أبداً البدءَ مِن اللّاشيء كما عائلتي، كما عائلات كلِّ اللاجئين وأجيلاها، وفي هذا الشقاء محنَةٌ فريدةٌ جداً مُشتَركةٌ بيننا وتَربِطُنا دائماً، ليسَ فَقَط بمفرداتٍ عَميقةٍ مثل "حنظلة" و "مفتاح العودة" و"القضية"، والتي في سماعها قِصَصٌ ودَلالاتٌ تَرُفُّ وَتَراً لنا وَحدَنا، بل لدينا ترابطٌ غير مُعلَنٍ ممتدٌ بِمَصِيريّةِ قِصَّةِ النّكبة، كأنّنا نَنتَظِرُ قِراءَةَ الفَصلِ القادِمِ مِن رِوايَةٍ مَلحَميّة قَرأنا بِداياتِها ومُنتَصفِها، وقَد استَطالَ مُنتَصَفُها والعُقدَة ليَزِيدَنا تَرَقُّباً لصَفَحات الانفِراجِ والنّهايةِ السَّعيدة الّتي وبِعمى الأَمَلِ نأمَلُ أَن تَكون، لذلِكَ تَرانا نَفرَحُ فخَراً حين يَتَصَدَّرُ فِلَسطينيُّ الأَصلِ إنجازاً فنياً أو أدبياً في أيامنا هذه كالمُخرِجَة دَرين سلام أو العارضة والممثلة بيلا حديد أو الكوميدي مو عامر، تَستَشْعِر عِظامُنا يَقَظَةً وَنَشوَةً مُستَمَدّةٌ من نجاحِهِم مُستَفيضينَ نَجاحاً لنا، وفي العقل الباطنيّ نُناجي القدَرَ أن يكون في نجاحِهم السُّطورُ الأولى في أولى صفحات فَصلِ الانفراج لِقِصَّتِنا، ونَقَعُ في خَطأ التّفاؤُل مُجدّداً ظنّاً أنّ الكِتاب كانَ قَد كُتِبَ سَلَفاً وما نَحنُ لَهُ إِلّا جُمهُور، مُتَناسِينَ أنَّ الكِتابَ هو في الواقِعِ مُذكَّراتٌ يَومِيَّةٌ نحنُ مُمَثّليها وَصَفَحاتُها تَكتِبُ ما نَقُومُ به نَحنُ أو لا تُكتَبُ أبَداً، ويَعُودُ الانتظار.


نَجاحُ أيٍّ مِنّا نجاحٌ لنا جميعاً، سُخفٌ أن نَغَارَ أو نَحسُد، فَهُوَ خِتمٌ للتَّاريخِ أنَّ َرغمَ الوَضعِ الصَّعبِ الَّذي وَصَفَهُ لِبِداياتِنا ما نَزالُ نَخُطُّ نهاياتٍ مُمَيَّزَةٍ قد ظُنَّ أنَّها مُستَحيلة، وَتَراني أَسعَدُ لِنَجاحاتِ أبناء أَعمامي وحارَتي بِذاتِ العِزَّةِ والنَّشوَة مهما كان تَواضُعها، إمّا كانَ في وَظيفَةٍ جَيِّدَةٍ أو شِهادةٍ قَديرَةٍ أو مَشروعٍ ناجح، إن كانَ أصبَحَ غَنيّاً أو رَجُلَ أعمالٍ أو ذا مَنصِب، إن أبدَعَ في هوايةٍ أو فَنٍّ أو رياضةٍ أو وَجَدَ السّعادَةَ في كثرة السَّفَرِ أو الأعمالِ الخَيّرة، فواجِبُنا الأساسي لقضيَّتِنا أن ننجح كأفرادٍ أولاً، أينَما كانَ النَّجاح وعلى أيِّ أرض، تَذَكَّر دائماً أنّ انجازاً منّا وإن تَشابَهَ مع انجازِ غَيرِنا فلا يعني أن كِلَيهما تَطلَّبا الجهد ذاته، فالآخرون قد بدأوا من وَضعٍ مجتمعيّ واقتصاديّ يَسبِقُنا بأميال، فمِنهُم مُلّاكُ الأراضي وَحَمَلَة المناصِبِ وساسةُ دُولهم من مئات السنين، ونحن رُمِينا في خيامٍ بِلا شِهاداتِ مِيلادٍ لنُنسى ونَذبَل، وعَلَيهِ فإنَّ في رُؤيةِ ما يُزهِرُ مِن الرَّمادِ مُعجِزَة تُبهر، ونجاحُ أيِّ فَردٍ مِنّا تَمَرُّدٌ على مَن ظَنَّ أنه حَكَمَ لنا القَدَر.


قَد تَعشَّقتُ القَضيَّةَ في صِغَري بحُكمِ سَواليفَ جَدّي فَكُنتُ مَحظُوظاً أنه نَجى مِن طَحنِ النَّكبَة، واعتَنَقتُها فِكرِياً في رَيع شَبابي الجامِعي، وتَناسَيتُها رَكضاً للنَّجاحِ مِن بَعدِ تَخَرُّجي، وَخِفتُ مِنها كَي لا أُنْبَذَ في دَهاليز الشَّرِكاتِ العالمَيّة، وَحِفظاً لِصحَّتي النَّفسيَّةِ مما فيها مِن أَخبارِ الاحتلالِ المُتَوالِيَةِ المُفجِعة والرِّوايةِ الغَربيَّةِ المُناقِضةِ لحقائِقِنا، فَسِرتُ في الأرض والسُّلَّمُ المهَنيُّ بوصَلَتي، وأَضرِبُ في عَرضِ الحائِطِ ما قد يُذّكِرُني من أينَ أصلي، وفي جَمَعاتِ الغُربَةِ نَلتَقي أجناساً وأجناساً وكلُّ الأجناس المُتَشابهةِ تَتَفاعَل في قوقعة حَضارَتها المُشتَركَة إلّا أنا وأبناء القضيّة إذا التقينا، فَتَرانا نَجِدُّ لِنَتَجَنَّبَ ذِكرَها وأَن يُذَكِّرَ الواحِدُ مِنّا الآخَرَ بالقاسِم المشتَرك ولو من بابِ المزاحِ على حليب "النيدو" المجفّفِ أو مدارس الوكالة لإغاثة اللاجئين، أو من باب الفخر لأين وصَلنا وصِرنا وبَنَينا، وكأنَّ الّذي كانَ ما صار، فَتَفاقَمَت في ذِهنيَ التَّساؤُلات، أَعلَمُ أنَّ الفقراء مِنّا لَيسَ لَديهم التَّرفُ للقَضية، ولكن كيفَ للمُقتَدِرينَ مِنّا التماسُ رابِطٍ يُجَسدُهم ويُوَجِّهُهم في مُستَقبَل القَضِيَّة؟ فحنظلة فَقيرٌ مُعدَمٌ بِلا حَول.


استَرسَلتُ في مُحيطي لأَعي واقِعي، إنّ النَّجاحَ كما يَبدو تَذكِرَةٌ لِبِداياتٍ جَديدَةٍ تَفصِلُ الشَّخصَ عن ماضيه وأصله، وفي هذا مُعضِلة، ومَن يَدرُس نَهضَة الشُّعوبِ يَعلَم بِأنَّ لا قَضيَّةٌ تَتَحرَّكُ بِفُقَرائِها بل بِنَجاحاتِ أبنائها المُتَوافِقةِ الّتي تَبني الزَّخَمَ للتَّغيرِ الإيجابيّ وَراءَها وتَجذِب مع الوَقتِ المُتراصِّينَ على جوانِبِ الطُّرُقِ للمُشارَكةِ في تَعزيز زَخمها، فَتَصِلُ إلى نقطة التحول التي تُجبرُ الواقِفينَ ضِدَّها بأن يَلينُوا ويَسمَحوا للتَّغيرِ بأن يَحصُل، وفي تَجمّعِنا مَعَاً نَبني قُدرَتَنا على رَسمِ الطريق، فالنّهضةُ المُجتمعيَّةُ تحتاج إلى 2.5% مِن مجموع الشَّعبِ فقط إذا آمَنو بِطَريقٍ واضحٍ مُقنِعٍ للغَد، فهل لَنا بِبوصَلةٍ نَستَحدِثها لِزماننا هذا؟

وإلى أن نَنعَمَ بذاك، إنّي أكرّسُ ما بِقُدرَتي لِأُسقي مَن حَولي فَنَصنَعُ جنَّتَنا على الأرض، وذاك وعدُ ابن حَنظَلةَ لأبناءِ قَومه، والقَومُ أفرادٌ إذا كلٌّ سقى مَن حَوله فاضَت خَيراتُها لكبرياءِ وجُودِنا وفَاضَت على السَّاقين فيُحَقّقوا أُفُقاً أَبعَدَ وأكبَر، فَهيَ خَيرٌ للآخرينَ وَمَصلَحَةٌ شَخصيَّة في آنٍ معاً. فَلنَستفيدَ ممِّا يَجمَعُنا وإن كان ما يَجمَعُنا هيَ المُعاناةُ المُشتَرَكَة.


- ابن حنظلة

55 views

Comentários


bottom of page