في مساء ١٣\٠٤\٢٠٢٤، أعلنت الأردن والعراق ولبنان إغلاق المجال الجوي تحسباً لهجمة ايرانية على اسرائيل رداً على قصف اسرائيل سفارتها بدمشق قبل اسبوعين تقريباً، تفاقم الترقب على مدى الأسبوعين إلى أن أرسلت إيران قرابة ٣٠٠ مسيرة وصاروخ دفعة واحدة. فقامت الولايات المتحدة وتحالفها واسرائيل بصدهم خلال ساعتين ابتداءاً من الواحدة ليلاً. كل من في الأردن نظر إلى الأعلى مراقباً السماء وأجزاءها المشتعلة خلال ساعات الليل. ليلة غير مسبوقة.
انتهى الاستعراض السريالي في سماء عمّان وصفحات الأخبار المتلفز، وخيّم شعور الخيبة والاندهاش ضباباً في ذهن الجميع يغوص فيه كلُّ الأقاويل والتفاسير من شرائح مجتمعية مختلفة، فالبعض يرى ما حدث انتصارا لقوة ايران وآخرون يرون مسرحية غدّارة، والكلّ في إجماع في خوف، الخوف أنّ أخبار غزّة ستُستَبدل بعناوين تبدأ وتنتهي بإيران في أذن أصحاب القرار. وأنا أرى أن الجميع محق ولا تناقض. ولكني أرى أيضاً أنّ المسرحية مصممة ضد ما ترغبه اسرائيل وطبعاً غير ملائمة لتطلّعات من استجدى إنقاذ غزة تلك الليلة.
فارتأيت أن أسرد الأحداث لعلّ تفسيرها فيها:
أطراف النزاع:
١. امريكا: تصاعد الضغط على بايدن داخلياً مع انخفاض حاد في شعبيته قبيل انتخابات يرى كثيرون أنه سيخسرها كنتيجة لموقفه من الحرب و ضرورة تحسين الوضع الإنساني في غزة، فبدأ هو الضغط على نتنياهو لقبول اتفاق هدنة، ومع حادثة المطبخ العالمي، اضطر إلى تعجيل الأمر. وبما أنه لا يمكنه خسارة اللوبي الصهيوني، فهو لا يريد ولا يستطيع الضغط على إسرائيل بوقف الدعم العسكري أو المادي، ونتنياهو يعلم ذلك مما يعطيه اليد العليا ليرفض طلبات بايدن، وكلما رفض نتنياهو طلبات بايدن ازداد الاحتدام بينهما.
٢. اسرائيل: نتنياهو لا يريد انهاء الحرب للأسباب الشخصية التي بتنا نعرفها جميعاً: تحيده عن الحكم، محكمة سجنه، تمجيده بنصر يحلم به. ومع تفاقم الضغط عليه من قبل بايدن، أصبح نتنياهو يرى أن أمله الوحيد هو اتساع رقعة الحرب مما سيضطر أمريكا لدعمه لأشهر أخرى قد ينتج عنها انتصار على حزب الله أو إيران فيستمر في حكمه وربما انتخابات جديدة يفوز بها. فقام بعمليات استفزازي واغتيالات في بيروت ثم سوريا ثم السفارة الإيرانية، راجياً لحرب شديدة ومديدة.
٣. إيران: لا ترغب في حرب تخوضها مباشرة ضد إسرائيل وأمريكا وبريطانيا والانسان الأبيض، فتنتهي كما شمال كوريا عالمياً في أحسن حال والعراق في أسوءه، خصوصاً أن الصين وروسيا لم يبديا رغبة بالتدخل لأسباب سيحكيها التاريخ في المستقبل، ولكن حادثة تدمير سفارتها قد أوقعتها في معضلة، فمن جهة لا يمكنها أن لا ترد وهي القوة الداعمة لحركات المقاومة في المنطقة ومن جهة أخرى لا يمكنها أن تؤذي اسرائيل لدرجة تجبر أمريكا على التدخل المباشر لحمايتها كما سيأمر اللوبي الصهيوني وتحقيقاً لرغبات وأهداف نتنياهو.
الأحداث:
بعد استهداف السفارة، سارعت أمريكا للحديث مع إيران، فكلاهما لا يريد حرباً وكلاهما يعلم أن نتنياهو افتعل حادثة السفارة لإجبارهما على الاشتباك، ولأسبوعين تقريباً تباحث الطرفان ما يمكن عمله بحيث يبدو كلاهما منتصراً دون أن يمتد الصراع. وهذا يشرح التزام إيران بنص القانون الدولي في الردع والاعلان عن توقيت الهجمة ويفضي لجاهزية الدول الغربية للتصدي لها. فذاك مسرحية أو على الأقل قواعد اشتباك تفضي بنتيجة مقدرة مسبقاً.
وارتأت ايران أن تستغلَّ الفرصة بتجربة كامل مجموعتها الهجومية وانتاج مشهد الأول من نوعه في هجوم سربي للطائرات المسيرة (الدرونز) معززة بصواريخ بالستية لم يتسنى لها اختبارها من قبل في أرض الميدان، فكثافة الهجمة وتنسيقها المعقد يعطي استعراضاً للقوة حيث أن ٣٠٠ مسيرة وصاروخ موجهة عبر جميع خطوط حدود اسرائل تطلَّب انخراط عدد كبير من أسلحة جو جيوش عدَّة للمساندة وبالإضافة للقبة الحديدية وما إلى ذلك. وقوة الردع الإيرانية تنشأ في تصور اسرائيل سيناريو مستقبلي مماثل وبهجمة ألف أوألفين مسيرة وصاروخ وبلا إشعار مسبق أو حضور لقوى مساندة غربية، وخصوصاً أن جميع أسلحة إيران مصنعة محلياً ورخيصة الكلفة نسبياً ويمكن انتاجها بكميات للإمداد المتواصل، فهي غير مستوردة كما أسلحة الدفاع الإسرائيلية التي تحتاج جسر إمداد مكلف وغير فوري، فكل هذا تعتبره القوى المؤيدة لإيران بانتصار. وأضف إلى ذلك أن بعضاً من الصواريخ ضربت ثلاث أهداف كانت انخرطت في هجوم السفارة في سوريا (مطارين عسكريين ومبنى استخبارات الشمال) وكانت تعتبر هذه الأهداف آمنة بتجهيزها بأحدث رادارات وأسلحة دفاع أمريكية. ولربما هذا الاستعراض يجلب مشترين من سوق السلاح فيتّسع مجال السيطرة السياسية لإيران. وأكثر ما يلفت النظر اليوم هو هاتف الصين مع إيران اليوم لتبدي إعجابها ورغبتها بتطوير التعاون المشترك.
ومن جهة أمريكا، فإن صدّ ٩٩% من المسيرات حسبما أعلنت وعدم قتل أي اسرائيلي يعتبر انتصاراً وتفريغاً لأي سبب يجبرها على الانخراط أكثر بالحرب، ولذلك كان مهماً أن تعمل كلّ قوة متوفرة في المنطقة لصد المسيرات في طريقها، فكان كلّ من ايران وامريكا يريدان لأغلبية المسيّرات أن تُصطاد في الجو والذي تطلب التحضير والتنسيق.
فكان لكل الأطراف ما كان لتحقيق أن لا يكسب نتنياهو ما يريد، بينما تُظهر إيران قوتها ويبدو بايدن أنه أنقذ إسرائيل. ولما في ها الوقائع من سخرية، نجحت ايران وأمريكا وفشلت اسرائيل.
مآخذ:
إذا كان السيناريو صحيحاً فمأخذي أنَّ وَجَب على إيران إخراج وإنتاج العمل الدعائي ومحتوى الإعلام المرئي بأفضل مما كان ليكون استعراض القوة ملموساً لعامة الجمهور ولاحداث صدى ردع أعظم لدى العامة، وليس لدى الجيوش فقط.
كيف أيٌ من هذا يخدم الفلسطينين في غزة في الوقت الحاضر؟ هل تم المساومة مع أمريكا على ما يحقق وقف إطلاق النار للموافقة على المسرحية؟ لاحظت ارتفاع سقف مطالب حماس للمرحلة الثانية والثالثة من الهدنة بعد الهجوم. ويجدر بالذكر أن حماس قد باركت الهجمة واعتبرتها نجاحاً.
هل يتراجع تعجرف نتنياهو الآن وقد حصل على عذرٍ أكبر لشن هجوم وبدء الحرب الذي يريد على ايران؟ هل يملك بايدن كرون ضغط على نتنياهو وهو الذي فشل مراراً أمام عناد نتنياهو واللوبي الصهيوني؟ وإذا أرعنت اسرائيل في الرد على الرد الإيراني، سيتوجب على واشنطن والدول المساندة أن تسقط صواريخ الرد الاسرائيلي قبل وصولها إلى أراضي إيران وإحداث خسائر تفجر الحرب التي تتجنبها أمريكا، فلربما المسرحية هي بداية لما هو قادم، بدأت بمسرحية ولم يحدد نهايتها.
والله أعلم.
ابن حنظلة
"ابن حنظلة" هو رمزٌ لجيلنا الذي تمتد فيه نكبة حنظلة في تحديات القرن الواحد والعشرين حتى يرجع المفتاح إلى بيته. متسلحين بعدسة فكرية فريدة للأحداث المعاصرة وإصرار بنا على حق لن يضيع، فأبناء الخيام قد أحسنوا فينا بناءنا وصرنا قادرين، وما عدنا الشعب الضائع، بل نَبَتَ فينا مما ارتوينا من ظلم منارة وبوصلة لعدل الإنسانية، فَمَن أَولى أن يقدم، إذا ليس نحن، فمن؟ وإذا ليس الآن، فمتى؟
في مُدوّنَةِ ابن حنظلة تصوّراتٌ وانعكاساتٌ وتفاعلات، علَّها تَجذِبُكَ معنا فنبني معاً:
"ابن حنظلة" هو رمزٌ لجيلنا الذي تمتد فيه نكبة حنظلة في تحديات القرن الواحد والعشرين حتى يرجع المفتاح إلى بيته. متسلحين بعدسة فكرية فريدة للأحداث المعاصرة وإصرار بنا على حق لن يضيع، فأبناء الخيام قد أحسنوا فينا بناءنا وصرنا قادرين، وما عدنا الشعب الضائع، بل نَبَتَ فينا مما ارتوينا من ظلم منارة وبوصلة لعدل الإنسانية، فَمَن أَولى أن يقدم، إذا ليس نحن، فمن؟ وإذا ليس الآن، فمتى؟
في مُدوّنَةِ ابن حنظلة تصوّراتٌ وانعكاساتٌ وتفاعلات، علَّها تَجذِبُكَ معنا فنبني معاً:
صفحة: https://www.childofhandala.blog
انستغرام: https://www.instagram.com/child.of.handala